حكايتي مع ’رجل المستحيل‘

أتذكّر كلّ ذلك وكأنّه كان بالأمس فقط…!
كنتُ ما زلتُ في السنة الثانية من المرحلة الإعدادية، عندما عرّفني (خالد)، صديقي المقرّب وابن جيراننا بالبناية، إلى سلسلة قصص جديدة كان قد بدأ في مطالعتها مؤخراً.
حتّى قبل تلك السنّ اليافعة كنتُ قارئاً شغوفاً أطالع كلّ ما تقع عليه يدي، ولكن مطالعاتي في القصص البوليسية لم تكن قد تعدّت بعد مرحلة قصص (المغامرون الخمسة)، والعميل (303)1*، ولم أكن إلى وقتها قد سمعتُ بمغامرات ضابط المخابرات المصري (أدهم صبري)، الشهير ’برجل المستحيل‘…!

كان ذلك في عهد ما قبل القنوات الفضائية التي تُبثّ على مدار الساعة، وما قبل الإنترنت والثورة الرقمية، حيث لم تكن لنا من وسائل للتسلية معشر الأطفال والشباب – ’العقلاء‘، فقد كان للأشقياء والمشاغبين وسائلهم…! – نُمضي بها الوقت حتّى موعد بدء بثّ القناة الحكومية – مع حوالي الخامسة عصراً -، إلّا القراءة والإطّلاع، سواءً كان ذلك في مجلّات الأطفال المنتشرة وقتئذٍ، مثل (بساط الريح)، و(سامر)، و(سعد)، و(ماجد) – وحسرتاه على ما آل إليها حالها وحال تلك الدولة التي كانت تصدر عنها2**…! -، أو المجّلات الثقافية المخصّصة لمراحل سنّية أكبر مثل (العربي) و(الدوحة) – واللتين كنت ’أستعير‘ نسخهما خلسةً من مكتبة والدي أثناء قيلولته، ثمّ أحرص كلّ حرصٍ على إرجاعها إلى مكانها – تماماً كما وجدتها – قبل استيقاظه…! –، وقراءاتٍ كثيرةٍ في سلاسل سيّر أعلام الصحابة والتابعين والعظماء من أبطال الإسلام، وأذكر في هذا الصدد كمّ بحثتُ في سنّي الصغيرة تلك عن كتاب ’رجال حول الرسول‘ لمؤلفه (خالد محمّد خالد)، وكيف طار لبّي فرحاً عندما عثرتُ عليه – وأخيراً…! – في مكتبةٍ صغيرةٍ بساحة قلعة (صفاقس) الأثرية عندما سافرنا لزيارة (تونس) ذلك الصيف…! أضفْ إلى ذلك معرفتي بالإنكليزية التي أتاحت لي منذ سنّ مبكرة الاستمتاع بقراءة بعض روائع الأدب العالمي أمثال (طوم سويّر)، و(هالكبيري فِن)، و(هايدي)، و(روبنسون كوروزو)، و(جزيرة الكنز)، و(الفرسان الثلاثة)، و(روبن هوود)، وغيرها الكثير الكثير…! ناهيكم عن شغفي بقراءة القصص المصوّرة الأمريكية، والتي لم أستطع العثور عليها بمكتبات (طرابلس) وقتئذٍ، فكنتُ أوصي كلّ قريبٍ أو صديق لي يهمّ بالسفر إلى الخارج بجلب أحدث أعدادها كي أستمتع بمطالعة مغامرات (سوبرمان)، و(باتمان)، و(الرجل العنكبوت)، و(الرجل الحديدي)، وغيرهم ممنّ طار مع مغامرتهم خيالي مذ طفولتي المبكرة…!

إلّا أنّني، وبرغم كلّ قراءاتي الكثيرة تلك والمتنوعة، إلّا أنّني لم أكن قد سمعتُ بعد بسلاسل ’روايات مصرية للجيب‘…!
سألتُ (خالداً) وأنا أقلّب صفحات نسخة القصّة التي ناولني إيّاها:
– ومَن يكون (رجل المستحيل) هذا…؟ أهو رجل شرطة، أم تحريّ خاص، أم بطلٌ خارق، أم رجلٌ آلي، أم ماذا بالضبط…؟
أجابني بابتسامته الماكرة التي كنتُ أعرف بأنّه يخبئ لي من ورائها مفاجأةً سارّة:
– لن أقول لك شيئاً…! اقرأ القصّة بنفسك، ثمّ اخبرني ما رأيك…!
كنتُ حينها لا زلتُ مأخوذاً بمغامرات (نادر) العميل (303)، لذلك سألتُ (خالداً) بحذر:
– (نادر) هو أخطر رجل في (الشرق الأوسط)، أتريد إخباري بأنّ (أدهم صبري) هذا أقوى منه…؟
أجابني (خالد) ضاحكاً:
– إذا كان (نادر) هو أخطر رجل في (الشرق الأوسط)، فإنّ (أدهم صبري) هو أخطر رجل في العالم…! فقط اقرآ القصّة وسترى…!
شكرتُ صديقي، وعدتُ إلى شقّتنا لأرتمي فوق سريري، وأنهمك في قراءة أولى روايات ’رجل المستحيل‘ التي تقع بيدي…!
بمجرد قراءتي بضع صفحاتٍ منها أدركتُ بأنّها لن تكون الأخيرة….كانت القصّة بعنوان ’الهدف القاتل‘، العدد الثاني والأربعين من السلسلة – والتي لم تصل أعدادها إلى بلادنا إلّا بعد عودة العلاقات ما بين (ليبيا) و(مصر) إثر سنواتٍ طويلةٍ من القطيعة…! -، وبالرغم من أنّني لم أعد أذكر تماماً تفاصيل أحداثها الآن، إلّا أنّ ما لن أنساه أبداً هو مدى التشويق والحماس اللذيْن شعرتُ بهما وأنا أقرأ أحداثها المثيرة، لأنتهي منها في جلسةٍ واحدة، ولأطرق الباب على (خالد) في الطابق الثالث بعد ساعاتٍ قليلةٍ لأسأله إنْ كانت لديه قصص أخرى من نفس السلسلة…!

قال وقد ازدادت ابتسامته اتساعاً:
– كنتُ أعرف بأنّها سوف تعجبك…!
ثمّ اختفى داخل شقّتهم، ليخرج إليّ بعد لحظاتٍ حاملاً في ذراعيه ما لديه من أعداد ’روايات مصرية للجيب‘، ولأكتشف في ذلك اليوم بأنّه بالإضافة إلى مغامرات ’رجل المستحيل‘، فإنّ هناك سلسلةٌ أخرى لنفس المؤلف، د. (نبيل فاروق)، موضوعها الخيال العلمي، وعنوانها ’ملف المستقبل‘…!
قضينا تلك الأمسية (خالدٌ) وأنا في تصفّح نسخ الروايات، والتي كانت صغيرةً بما يكفي لدسّ إحداها في جيب بنطلوني، مطبوعةً على ورقٍ مصفرٍّ رقيق، وتصوّر أغلفتها الملوّنة أبطالها في مشاهد حماسية من القصّص، فيما عناوينها توحي بالأحداث المثيرة التي ينطوي عليها كلّ منها…! ولأجدني أدخل تلك الأمسية الصيفية عالماً جديداً، ومدهشاً، ومثيراً…!
تدور سلسلة ’رجل المستحيل‘ لمؤلفها د. (نبيل فاروق) – كما تقول مقدّمة كلّ عدد منها – حول مغامرات ضابط مخابرات مصري يُدعى (أدهم صبري)، يحمل في صفوف جهازه الرمز الكودي (ن.1)، ما يعني بأنّه الأوّل من ضمن فئة نادرة من رجال المخابرات: فهو يجيد جميع الفنون القتالية، من (الكاراتيه) إلى (التايكواندو)، واستعمال جميع أنواع الأسلحة، من المسدّس اليدوي إلى قاذفة القنابل، إضافةً إلى إجادته قيادة جميع أنواع المركبات الآلية من سيّاراتٍ وطائرات وسفن وحتّى الغوّاصات…! كما ويتقن ستّ لغاتٍ حيّة بجميع لهجاتها إجادةً تامّة، إضافةً إلى كونه أستاذاً في فنون التنكّر وتغيير شكله وصوته…!
إلّا أنّ جميع مهاراته تلك لم تكن ما جذبتني لقراءة قصص مغامراته، بقدر ما كانت سماته الشخصية وأخلاقياته العالية، (فأدهم صبري) – كما صوّره مؤلفه – رجلٌ يتسم بأخلاقيات الفرسان، وهو يكره القتل وإراقة الدماء، ولا يلجأ لذلك إلّا للضرورة القصوى، وحتّى حين يفعل فهو لا يقتل أعزلاً ولا جريحاً ولا عدوّاً رفع يديه معلناً استسلامه، كما ولا يضرب امرأة مهما كانت الأسباب…! لا يدخّن، ولا يعاقر الخمور، ولا يمارس العلاقات المحرّمة. وهو بالإضافة إلى مهاراته العالية، بالغ الشجاعة، حادّ الذكاء، قويّ العزيمة، ولا وجود في قاموسه لكلمة ’المستحيل‘، ما جعله قدوةً لملايين الشباب في العالم العربي في ذلك الوقت، كنتُ أحدهم، ومن أكثرهم حماسةً كما أحسبني…!
و(أدهم صبري) – كما يصفه مبتكره د. (نبيل فاروق) – طويل القامّة، ممشوق القوام، وسيم الملامح، أنيق الهندام، نراه على أغلفة الروايات غالباً مرتدياً بذلةً وربطة عنق، ما يجعل الفتيات والنساء – حتّى من صفوف أعدائه…! – ما يقعن دائماً في حبائله، إلّا أنّ قلبه في كلّ مرةٍ كان لبلده (مصر) أولاً، ثمّ لزميلته في المخابرات (منى توفيق)، والتي تصحبه في أغلب مغامرات السلسة، والتي برغم حبّه الكبير لها إلّا أنّه يخفق دوماً في إقناعها بالزواج منه…!

تحمل مغامرات ’رجل المستحيل‘ أبطالها (أدهم) و(منى) وزميلهما خبير التزوير (قدري) – والذي منحه د. (نبيل) جميع صفات الصديق البدين الفكاهي النمطي…! – إلى قارّات الدنيا السبع، ليواجهوا في المهام التي يُكلّفون بها أعداء (مصر) – والوطن العربي – من رجال المخابرات الإسرائيلية (الموساد)، وعصابات المافيا، وغيرهم من الخصوم الأقوياء والخطرين، الذين ينجح (أدهم صبري) في كلّ مرة في إحباط مؤامراتهم، وإنقاذ (مصر) – وأحياناً العالم كلّه…! – من شرورهم، ملقياً عليهم بجمله الساخرة وهو يهشّم أنوفهم ويحطّم أسنانهم…!
اتسم أسلوب كتابة د. (نبيل)، والذي لم أكن في في البداية أعرف عنه أكثر من اسمه وصورته التي تظهر على الغلاف الخلفي لكلّ عدد من السلسلة، بالبساطة، إلّا أنّها بساطة السهل الممتنع، مع كثافة الوصف، وتلاحق الأحداث وإثارتها، وسعة الخيال، وغزارة الإنتاج، حيث سطّر المئات من الأعداد ما بين السلسلتين: ’رجل المستحيل‘ – الأكثر شعبيةً وشهرةً من بين أعماله -، وملف المستقبل‘ – الذي لم يتسع لي المجال للحديث عنها هنا، وإنْ كنتُ من محبّيها هي الأخرى، ناهيكم عن بعض القصص والسلاسل القصيرة الأخرى المتفرّقة، لأجدني أتساءل وأنا أقرأ قائمة الأعمال الممهورة باسمه: كيف كان يجد الوقت لكتابة كلّ هذه الكتب…!
كذلك، فلقد ملأ د. (نبيل) رواياته تلك بالكثير من المعلومات والحقائق العلمية، سواءً في سياق القصص نفسها، أو على هوامش صفحاتها، فمنحت هذا القارئ في سنواته المبكّرة الكثير من المعلومات عن مجالات شتّى، وفتّحت مداركه، ووسّعت آفاقه…!
وإنّني لأدين – ومعي جيلٌ كاملٌ من القرّاء – لتلك الروايات بتحسّن لغتنا العربية وتطوّر قدراتنا اللغوية، حتّى إنّني أستطيع – وبكلّ سهولةٍ ويسر – التعرّف إلى أيٍّ من قرّاء د. (نبيل) – وروايات مصرية للجيب‘ بصفةٍ عامّة…! – المتأثرين بكتاباته بمجّرد قراءة رسالةٍ من أحدهم أو منشورٍ له على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تظهر بصمة د. (نبيل)، وذلك الانطباع الذي تركه على كلّ قارئ شغوف برواياته واضحاً جلياً…! ولربما قد لاحظ بعضكم تعمّدي وضع أسماء الأعلام من أمثال (نبيل) و(أدهم)، وأسماء البلدان من أمثال (ليبيا) و(مصر) ما بين أقواس ()، وما ذلك إلّا من جرّاء تأثري بأسلوب كتابة الأستاذ العظيم نفسه…!
من خلالي تعرّف المزيد من أقربائي وأصدقائي إلى تلك الروايات، ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتّى أصبح أغلبهم من قرّائها، نتبادل أعدادها فيما بيننا، ونقضي الأوقات التي نجتمع فيها إمّا في مناقشة أحداثها، أو محاولة تخمين ما سيحدث في الأعداد القادمة منها…!
لم تكن أمّي قد واجهت معي مثل هذه المشكلة من قبل…! فلطالما كنتُ ذلك التلميذ المجتهد، المجدّ، الراغب في إحراز أعلى العلامات، والذي يحسن تنظيم أوقاته ما بين المذاكرة والمطالعة الخارجية، إلّا أنّها أصبحت مؤخراً لا تراني إلّا وإحدى روايات الجيب تلك في يدي أو قريبة منّي – حتّى وأنا أكتب وظائفي…! –، ما أجبرها على اتخاذ خطوةٍ صارمةٍ لم تضطر إلى مثلها قبلاً: حيث احتجزت كلّ ما لديّ من تلك الروايات، ثمّ جعلتني أتعهّد لها بأنّني لن أطالبها بأيٍّ منها حتّى انتهي من أداء كافّة صلواتي، ومن كتابة فروضي واستذكار دروسي، فإذا انتهيتُ من كلّ ذلك، وأبلغتها به صادقاً، أفرجتْ لي نهاية اليوم عن القصّة التي أريد قراءتها، لأقضي معها ساعات ما قبل النوم…!
ولقد حمّستني سلاسل الروايات تلك ورفعت من ثقتي بنفسي، حتّى أنّني خضتُ شجاراتٍ كثيرة متأثراً بشخصية ’رجل المستحيل‘، معتقداً بأنّه بإمكاني الانتصار على خصومي من المتنمرين بالمدرسة كما ينتصر (أدهم صبري) على أعدائه في الروايات…! ومع أنّني أُصبتُ في بضع مرّات بجروح وكدمات – بل أنّ أحدهم قد لكمني في أنفي ذات مرةٍ بعد أنْ تكاثر أصدقاؤه عليّ…! -، لكنني أستطيع القول بأنّ الشجارات التي ربحتُ فيها أكثر من تلك التي خسرتُ، وبأنّني في النهاية تمّكنتُ – على الرغم من صغر حجمي مقارنةً ببعضهم – من فرض احترامي عليهم، ومنعهم من استغلالي أو الاستهزاء بي…!

فيما بعد أصدرت ’المؤسسة العربية الحديثة‘ – الدار التي تصدر عنها سلاسل ’روايات مصرية للجيب‘ – مجلّةً بعنوان (بانوراما)، كان د. (نبيل فاروق) يشرف عليها بنفسه، وينشر عبرها بضع قصص قصيرة من تأليفه، ثمّ يجيب فيها على ما يصله عبر بريد المؤسسة من رسائل القرّاء التي تحمل أسئلتهم عن سلاسل الروايات – وإنْ كان يرفض رفضاً قاطعاً كشف أحداثها المستقبلية…! -، وملاحظاتهم، بل وانتقاداتهم. وأذكر بأنّني في أكثر من مناسبةٍ كنتُ قد كتبتُ بخطّ يدي رسائل طويلةً، ملأتها بما لديّ من كلّ ذلك، وضعتها في مظاريف، ومن ثمّ في صندوق البريد، لكنني لا أعلم صدقاً إنْ كانت أيّها قد وصلته أم لا، وإنْ كانت فهل أجاب عليها أمْ لا، حيث لم تكن (بانوراما) منتظمة الإصدار أصلاً، ولم تكن أعدادها تصلنا في (طرابلس) إلّا لِماماً، وبالتالي فلسوف يبقى ذلك من ضمن تلك الألغاز التي لا جواب لها من حياتي…! وإنْ كنتُ أعتقد بأنّ أحدها حتماً قد وصلته، لأنّني كنتُ قد اقترحتُ عليه فيها فكرة قصّة تتمحور حول عودة إحدى الشخصيات التي قتلها في عددٍ سابق، وأحبّ الاعتقاد بأنّ عودة تلك الشخصية قد جاءت بناءً على اقتراحي…! ولربما كان الأمر مجرّد توارد خواطر فيما بيننا، ولم تصل المؤلف رسائل هذا القارئ أبداً، ولكن هكذا تفكيري وأنا في ربيعي السادس عشر…!
ولكن، وعلى الرغم من كلّ المتعة الفائدة التي منحتنا إيّاهما مؤلفات د. (نبيل فاروق)، إلّا أنّ كلّ ذلك كان أيام البراءة والصبا، حين لم نكنّ نعي كثيراً من الحقائق السياسية عن (مصر) والعالم العربي، وكنّا لا نزال نعيش داخل تلك الفقاعة التي صنعتها حولنا أنظمتنا الحاكمة أيامئذٍ، فلا نرى إلّا ما يريدوننا أن نراه، ولا نعرف إلّا ما يخبروننا به عبر وسائل إعلامهم الرسمية…! لم تكن القنوات الفضائية قد استحدثت بعد، ولا شبكة الإنترنت التي وضعت العالم عند أطراف أناملنا قد ظهرت…! شخصياً لم أكن قد قابلتُ إنساناً مصرياً بعد في حياتي – فقد طرد نظام (القذافي) أغلبهم من (ليبيا) لدى قطعه العلاقات مع (مصر)، ومنع عرض مسلسلاتهم وأعمالهم الفنّية عبر إعلامه لفترةٍ طويلة -، وبالتالي فقد رفعت روايات د. (نبيل فاروق) – عندما سُمِح بتداولها في البلاد – ومعه كُتّاب آخرون تعرّفتُ إلى أعمالهم لاحقاً3*، سقف توقّعاتي عن (مصر) وأجهزتها الأمنية، وصراعها – المزعوم – من أجل قضايا المسلمين والعرب، ما شكّل خيبة أمل كبرى لي عندما كبرتُ واكتشفتُ الحقيقة لاحقاً…!
ولا أدري صدقاً هل تعمّد د. (نبيل) في قصصه تضليلنا وتزييف وعينا، أم أنّه أراد الفرار من واقعنا المرير إلى عالمٍ خيالي من ابتكاره هو، يكون فيه المصريون والعرب هم الأبطال والخيّرون، ينتصرون على أعدائهم، ويعلون من قيّم حقوق الإنسان والعدالة والمساواة، كما تصوّر السينما الأمريكية الشعوب الغربية…!
كما ازدادت خيبة أملي، عندما أصبحت مشاهدة أفلام السينما الأمريكية متاحةً لي عبر القنوات الفضائية – وشبكة الإنترنت لاحقاً -، لأكتشف بأنّ الكثير من أفكار قصص د. (نبيل فاروق) إنّما كانت مستوحاةً – ولو بتصرّف – عن أفلام غربية، أجاد إعادة صياغتها، وتقديمها في حُلةٍ مصرية، إلّا أنّها – في النهاية – كانت محاولاتٍ لمحاكاة أفلام (جيمس بوند) و(المهمة المستحيلة) وغيرها من أفلام الحركة والإثارة الأمريكية، وإنْ كنتُ أقرّ للرجل بإجادته في القيام بذلك…!
في مراحل متقدّمة من مسيرته الأدبية، أُجرِيت مع د. (نبيل فاروق) عديد اللقاءات في وسائل الإعلام، صرّح عبرها بأنّ شخصية بطل رواياته الشهير (أدهم صبري) إنّما هي مستوحاة عن ضابط مخابراتٍ مصري حقيقي كانت قد أُتيحت له فرصة الإلتقاء به والتعامل معه، إلّا أنّه غير مصرّح له بكشف حقيقة هويته…! وبرغم عدم تصديقي الشخصي لذلك، لمجموعة كبيرةٍ من الاعتبارات والأسباب، إلّا أنّني أحيي في د. (نبيل) مقدرته على تغيير الموضوع، وخلق سرديةٍ موازيةٍ لتلك التي تفترض بأنّه إنّما ’استعار‘ أفكار رواياته وقصصه من مصادر أجنبية…!
ومع ازدياد نضجي، وانفتاحي على كُتّاب وأدباء آخرين – عرباً وغربيين -، فَتَرت علاقتي بكتابات د. (نبيل فاروق)، التي تحوّلت إلى مجّرد ذكرى جميلةٍ من طفولتي، أستعيدها كلما رأيتُ صورة الدكتور على شاشة إحدى القنوات يُجري لقاءً أو يقدّم برنامجاً تلفزيونياً، أو كلّما دار حديثٌ في وسائل الإعلام المصرية عن احتمال تحويل أعماله إلى مسلسل تلفزي أو فيلمٍ سينمائي، فقط لأضع يدي على قلبي داعياً الله العلّي القدير ألّا يحدث ذلك…! فإمكانيات السينما المصرية – مع احترامي لبعض العاملين بها – تقصر تماماً عن تصوير بطل طفولتي (أدهم صبري) بشكلٍ يليق بتلك الصورة المرسومة له في مخيّلتي. ولأنّ تقديمه بأيّ شكل يقلّ عن (جيمس بوند) وغيره من أبطال أفلام الحركة في (هوليوود) لن يؤدي إلّا إلى تشويه الشخصية بل وتدميرها، وبما أنّ إمكانيات ذلك غير متاحةٍ في الوقت الحالي، فمن الأفضل في رأيي ترك ’رجل المستحيل‘ يعيش على الورق وفي أذهاننا كما أراد له مؤلفه أن نتصوّره…!

إلّا أنّ د. (نبيل فاروق) كان قد فاجأني لاحقاً بموقفه المعادي لثورات الربيع العربي، وهو الذي لطالما علّمتنا كتاباته رفض الظلم والتصدّي للظالمين، والدفاع عن قيّم الحريّة والعدالة والمساواة…! وقد أحزنني كثيراً تأييد أحد مؤلفيّ المفضّلين – حتّى وقتها – لأنظمة القمع والاستبداد في بلداننا العربية، لتزداد تلك الهوة ما بيني وبينه اتساعاً، ولتمرّ سنواتٌ لم ألتقط فيها كتاباً من تأليفه، بل ولأتوقّف عن متابعته في وسائل التواصل الاجتماعي حتّى، فقد انضم عندي إلى قائمةٍ طويلةٍ من الشخصيات الذين كشفت الثورات زيف المبادئ والقيّم التي ينادون بها في أعمالهم الأدبية والفنّية، بينما تختلف تماماً مواقفهم في الحياة الواقعية…!
لكنني تناسيتُ كلّ ذلك حين بلغني خبر وفاة الرجل مؤخراً، ليحلّ محلّ خيبات أملي فيه تلك حزنٌ عميقٌ على رحيله وفقدانه، وكأنّه صديقٌ لطالما عرفته…
ربما لأنّه كان كذلك بالفعل…!
فشكراً لك يا دكتور (نبيل) على ساعاتٍ وساعاتٍ من المتعة والتسلية…!
شكراً لك أنّك كنتَ جليسنا في وحدتنا….!
شكراً على تلك المعلومات المفيدة التي منحتنا إيّاها قصصك ورواياتك…!
شكراً على أنّك أعطيتني – ومعي ملايين الشباب العرب – بطلاً طارت مع مغامراته مخيّلاتنا، نتطلّع إليه، ونتمنى لو نحذو وحذوه ونكون مثله…!
برغم تلك المبالغات التي ملأت بها قصصك، مخفياً عنّا بشاعة واقعنا، إلّا أنّه كان خيالاً جميلاً، منحنا أملاً في غدٍ أجمل، كان ينبغي أن نجعله نحن حقيقةً حين كبرنا وصار الدور إلينا، لا أنْ نجعل واقعنا أقبح وأشدّ إيلاماً… كما فعل الكثيرون منّا…!
زرعتَ في نفوس ملايين الشباب عادة حبّ القراءة والمطالعة، وهذا معروفٌ يدين لك به جيلٌ كامل، ما يزال الكثير من أبنائه ترتسم على شفتيه ابتسامةٌ حالمةٌ كلّما زار مكتبةً، أو مرّ بأحد باعة الكتب على الأرصفة، ليرى من بين المطبوعات المعروضة إحدى قصصك ورواياتك، لتعود به الذكريات إلى أيام الطفولة والشباب…!
رحلتَ، ولكن ستبقى أعمالك – بإيجابياتها وسلبياتها – شاهدةً على مرورك بهذا العالم الذي تركتَ فيه أثراً عميقاً لا تمحوه الأيام…
وستبقى ما بقي (صبري)…!
(أدهم صبري)…!
المعروف أيضاً بلقبه ذاك الذي طابقت شهرته الآفاق…
لقب ’رجل المستحيل‘…
أمّا بالنسبة إليّ، فلقد كنتَ أنت – وبرغم خلافي معك في الرأي – رجل المستحيل الحقيقي، الذي استطاع أن يخطّ – في فترةٍ قياسية – مئات القصص والروايات التي تربّي عليها جيلٌ بأكمله، كنتُ أنا أحدهم…
وإذ أستعير أسلوبك في كتابة هذه السطور إليك، فإنّني أدين لك – وبشكلٍ خاص – أنّك من جعلني أريد أن أصير ذات يومٍ كاتباً مثلك…!
فشكراً لك مرةً أخرى…
ووداعاً…

علاء الدين صالح الشريف

الهوامش

1. مغامرات العميل (303): سلسلة قصص بوليسية من تأليف الكاتب المصري (مجدي صابر) صدرت في ثمانينات القرن الماضي عن دار (البحار)، عن مغامرات عميل استخباراتي اسمه (نادر) يقوم بتنفيذ عمليات خطرة.
2. مجلة (ماجد): مجّلة عربية للأطفال كانت تصدر أسبوعياُ عن دار (الاتحاد) في (الإمارات العربية المتحدة)، وكانت مليئةً بالمعلومات الثقافية المفيدة، قبل أن ينحرف مسارها ومسار تلك الدولة انحرافاً خطيراً لينقلب حالها رأساً على عقب…!
3. الراحل (صالح مرسي) مؤلف رواية (رأفت الهجّان) على سبيل المثال…!