في رثاء الأديب علي مصطفى المصراتي

كنتُ في حوالي العشرين من عمري عندما التقيته ذات يوم بالصدفة في شارع (عمر المختار)…!
كان يرتدي بذلةً انيقةً، وتبدو عليه أمارات الهيبة والوقار، وهو يمشي بهمّةٍ ونشاط لا تتفقان مع كبر سنه…!

حيّيته سائلاً:
– السلام عليكم… ألست الأستاذ (علي مصطفى المصراتي)…؟
توقّف في مكانه واستدار إليّ مبتسماً، ثمّ سألني بلهجةٍ أقرب إلى العربية الفصحى:
– بلى أنا هو، ولكن كيف عرفتني…؟
– سبق لي رؤية صورة حضرتك في التلفاز. أنت أديبٌ وكاتبٌ كبير…!
اتسعت ابتسامته وسألني:
– وماذا قرأتَ لي…؟
أجبته:
– بعض نصوصك كانت مقرّرة علينا في المدرسة الثانوية، ولكنني لم أقرأ كتاباً كاملاً لك بعد بصراحة…


أطلق ضحكةً عاليةً ثمّ سألني:
– أنت فتىً مميّز…! ما اسمك…؟
شأن طلّاب المدارس أخبرته اسمي الثلاثي بحماسة:
– اسمي هو (علاء الدين صالح الشريف) يا أستاذ…!
– وهل أنت من محبّي القراءة يا (علاء)…؟
– نعم…! بل أنا هنا اليوم لشراء بعض الكتب…!
– فماذا اشتريت…؟


أريته غلّتي، وقد كانت رواية “مغامرات (شيرلوك هولمز)” كنتُ قد اشتريتها لتوّي من مكتبة (الفرجاني) بشارع (ميزران)…
– أوه… أنت من محبّي الأدب البوليسي…! عظيم عظيم…! ولكن ما رأيك لو تجرّب لوناً آخر…؟
– لا بأس بذلك أبداً…
أخرج من جيب معطفه دفتراً صغيراً، كتب فيه بضع كلماتٍ بقلم كان يحمله بجيب قميصه، ثم قطع الصفحة من الدفتر وناولني إيّاها قائلاً بابتسامةٍ لم تفارق محيّاه:
– يوم الثلاثاء المقبل، اذهب الى مكتبة (الرشيد) بشارع (عمر المختار) وناولهم هذه القصاصة، وستجد لديهم لك هديةّ قيّمة…!


وصافحني بحرارةٍ قائلاً:
– ما أسعدني عندما أصادف شباباً في مثل سنّك من محبّي القراءة…!
ثمّ افترقنا، ومضى كلّ منّا في طريقه…!
***
عدتُ إلى المدينة مساء الثلاثاء المقبل كما أخبرني الأستاذ، وتوجهتُ إلى المكتبة التي أخبرني عنها، وهناك ناولتُ الموظف القصاصة التي منحني إيّاها الأستاذ، وما أنْ قرأها حتّى قال:
– أأنت (علاء)…؟
– نعم، أنا هو… هل تريد رؤية بطاقتي الشخصية أو…؟
أشار إليّ بكفّ يده علامة أنه لا داعٍ لذلك، ثمّ أخرج لي من تحت المكتب الذي كان يجلس خلفه كيساً كبيراً مليئاً بنسخ من مؤلفات الاستاذ (على مصطفى المصراتي)، مهداةّ إلىّ وممهورة بخطّ يده…!


– قال لنا أن نعطيك هذه…
عجزتُ عن النطق… وأخيراً قلتُ:
– شكراً جزيلاً لكم وله…
– بل الشكر لك أنت… لقد كان سعيداً بلقائك يومها…


صافحتُ صاحب المكتبة، وعدتُ بهديتي إلى محطّة الحافلات في شارع (بورقيبة)، حيث رحتُ أتصفّح إبداعات الأديب العظيم من مكان جلوسي في المقعد الخلفي من حافلة (الايفيكو)، التي راحت تتهادى في طريقها عائدة بي الى البيت…!

– إلى ابني (علاء) مع الشكر… أتمنى لك مستقبلاً باهراً…!
***
كانت هذه ذكراي الوحيدة مع أستاذنا العظيم، عميد الأدب الليبي، المرحوم باذن الله، الاستاذ (على مصطفى المصراتي)… إلّا أنها بقيت محفورةً في ذاكرتي إلى الأبد…!
لم التقه بعدها أبداً، ولكنني قضيتُ ساعاتِ وساعات مع أعماله الأدبية العظيمة…!
اللهم اغفر له وارحمه وادخله فسيح جناتك، وعظّم أجرنا وعزاءنا فيه…